الدرس الثالث : ضفاف النور

الدرس الثالث : ضفاف النور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

المجلس الخامس من مجالس التدبر، مجلسنا بعنوان “عظمة الله في ضوء اسمه العليم”.

– إن من أعظم ما ينبغي على المؤمن أن يتأمل في أسماء الله الحسنى ويتدبرها، ويعيش معها.

– من هذه الأسماء التي يتكرر ورودها في القرآن اسم الله العليم، عليم يعلم ببواطن الأمور وظواهرها : (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

– العليم متضمن للعلم الشامل الكامل، علم جميع الأمور، علم لم يسبقه جهل، ولم يسبقه به أحد سبحانه وتعالى.

– يعلم الأمور المتقدمة والمتأخرة، الأزلية أياً كانت: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).

– يعلم جميع الأمور حقيرها، صغيرها، كبيرها، لما تستشعري أن كل أمر يعلمه الله سبحانه وتعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

– يعلم سبحانه ظواهر الأمور وبواطنها، غيبها وشهادتها: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ).

– يعلم ما تحت الأرض السفلى وما فوق السماوات العلى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، لما تشتعر أن الله عليم بكل شيء يعلم خبايا أمورنا، حتى ما بين اثنين يعلم الله ما بينهم، من سماحة الدين أنه نهى عن نجوى اثنين دون الثالث: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)، أينما كنتي يعلم بك الله، ثم قال: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني حديثك اليوم عن فلانة وفلانة ستُنبئين عنه يوم القيامة، (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كل شيء سنحاسب عليه، بجميع الأوقات.

حتى أنهم يتفاجئون بأعمالهم كلها صغيرها وكبيرها: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

لما نعلم أن الله عليم هذا يورث الخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى.

– سنقف عند مشهد من الآيات، مشهد عميق، استشعروا معي في هذه الآيات: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) مشهد عظيم، تخيلوا عند الله مفاتح الغيب، يعلم حتى أوراق الشجر أين تسقط، أمورنا كلها لا يعلمها إلا الله، يعلم مافي البر والبحر، ويعلم ما في أرجاء الدنيا كلها.

(وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) لو تخيلنا عدد الأوراق التي تسقط هل يعلم أحد عددها؟ لو أن دول العالم كلها اجتمعت وجهزت لها جيوش لتحصي عدد الأوراق التي تتساقط هل تستحصيها؟ لا أحد يعلم بها إلا الله.

(إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) كلها في كتاب عند الله سبحانه وتعالى.

– مما اختص الله بعلمه مفاتح الغيب، ماهي مفاتح الغيب؟ (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

أما علم الساعة، فقد قال الله عنها: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ).

وأما نزول الغيث: فمهما بلغ البشر من العلم، لم يستطيعوا أن يعلموا متى سينزل الغيث بالضبط، وأحياناً يقولون سينزل مطر ولا ينزل، فهذا من علم الغيب لا يعلمه إلا الله.

وأما علم الأرحام، فغاية ما وصل إليه العلم جنس هذا الجنين، لكن وقت التقاء البيوضة، وهذا الجنين هل هو شقي أم سعيد، متى تنفخ في هذا الجنين، أمور في علم الأرحام لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

وأما كسب الغد، نحن نعلم مثلا أنّي غداً سأذهب إلى الجامعة، لكن هل أنا متأكدة أني سأداوم غداً؟ قد يحصل ظرف ولا أستطيع أن أداوم، كل الأمور المستقبلية لا يعلمها إلا الله.

(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كل من الناس لم يخطر بباله أن يموت في مكان ما، فلما شاء الله قدر له أن يذهب إلى هذه البلد الفلانية ويموت فيها.

– لما تعلمنا اسم الله (العليم) نستشعر أن الله مطلع على جميع أمورها، وهذا يورث الخشية والرهبة من الله.

نسأل الله أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة.

– المجلس السادس “منهج السلف في تلقي القرآن وتدبره”.

-إن الرفعة والعزة التي نالها السلف الصالح كانت لتمسكهم بهذا القرآن، تمسك حقيقي، وليس كتمسكنا نحن، نحن قراء القرآن، لكن هم كانوا متمسكين عالمين به، جلعوا القرآن منهج حياتهم، كان تعاملهم مع القرآن:

– أولاً: علموا منزلة هذا القرآن، والمقصد منه:

ابن مسعود –رضي الله عنه- كان يقول: “إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به، وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن اعتصم به”، كانوا يعيشون مع القرآن على أنه هدي ومنهج حياة.

وكان يقول ابن مسعود –رضي الله عنه- أيضاً: “من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر : فإن كان يحب القرآن، فهو يحب الله ورسوله”.

إذا سألتي أي أحد: هل تحب القرآن؟ يقول نعم، لكن يختلف التعامل مع هذه المحبة، الحب الحقيقي أنّي أفتقر لمن أحب. نحن نقول نحب القرآن، لكن كيف نتعامل مع القرآن؟ كم مرة نقرأ القرآن؟ ربما يمر يوم يومين ونحن منشغلين بالدنيا ولا نفكر بهذا القرآن، أو حتى لو قرأناه نقرؤه فقط قراءة حتى نخرج من هذا الإثم.

فالحب الحقيقي هو أن تتعلقي بالقرأن، نسأل الله أن يبلغنا هذه المنزلة أنك تشتاقين لهذا القرآن كما كان السلف الصالح.

ابن عباس –رضي الله عنه- يقول: “ضمن الله لمن قرأ القرآن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة” ليس قراءة عادية، وإنما قراءة اتباع، واستدل بآية: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى).

– ثانياً: تعلمهم الإيمان قبل القرآن:

تعلموا الأحكام وشرائع مثلما أمرهم الله، بعد ذلك جاء القرآن فزادهم إيماناً، نحن مشكلتنا نقرأ ونحفظ القرآن وقد لا نعلم ما به من أحكام وشرائع، ولا نفهم معانه.

جندب بن عبدالله –رضي الله عنه- كان : “كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاير فتلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً”.

– ثالثاً: حسن تلقيهم القرآن بأنه رسائل من ربهم للعمل والامتثال، فكانوا يتدبرونها بالليل ويتمثلونها بالنهار.

ابن مسعود –رضي الله عنه- كان يقول: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”، مشكلتنا أننا نحفظ بدون فهم وبدون استشعار.

يقول ابن عمر –رضي الله عنه-: ” كان الفاضل من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به”، كان منهجهم في تربية أبنائهم، وتعظيمه في نفوسهم، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)

يقول ابن مسعود –رضي الله عنه- في وصاياه لحملة القرآن: ” ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً، ولا ينبغي له أن يكون جافياً، ولا ممارياً ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً”، هذ المنهج هو الذي خرّج ذلك الجيل وصنعه، لو أننا تلقينا القرآن كما تلقاه الجيل الأول لأثر في نفوسنا وأثرنا فيمن حولنا، لكن كيف حالنا مع القرآن؟

-رابعاً: تلاوة القرآن بترتيل وتمهل وتحزن، والقيام به في الليل:

الله سبحانه يقول: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)، كان يقرأها على مكث، لا يتجاوز الآية حتى يفهموها، بعض الصحابة كان إذا استشعر آية يمر الليل وهو يبكي ويكرر هذه الآية، نحن دائماً نقرأ بسرعة ولا نستشعر، عندما تستشعرين آية قفي عندها حتى تصلي إلى المنزلة التي وصلوا لها.

قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: “لا تهذوا القرآن كهذ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة”، إذا مررتي بآية رحمة اسألي الله الرحمة، إذا مررتي بآية نعيم اسألي الله النعيم، عند آية النار استجيري، عند آية فيها عظمة الله سبحي الله.

فقراءة القرآن بتمهل أعظم ما يؤثر في النفس ويصلحها.

أما قراءة القرآن في الليل هي أقوى وسيلة للتدبر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) قال ابن عباس: هو أجدر أن يفقه القرآن.

يقول الشنقيطي –رحمه الله-: “لا يثبت القرآن في الصدر، ولا يسهل حفظه، وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل”.

أسأل الله أن يمنّ علينا ونستشعر حلاوته ونصل للذة التي وصلوا لها، والله يجعلنا وإياكم من أهل القرآن.

– المجلس السابع: كيف نقرأ سور القرآن؟

القرآن كالحدائق ذات بهجة، فإذا انتقلتِ من سورة إلى سورة، كأنك تنتقلين من شجرة يانعة إلى شجرة مثمرة أخرى بطعم آخر.

– الناس على ثلاثة أنواع: جائع محروم منها، وسقيم يأكل ولا يستلذ لأنه فقد حاسة التذوق، ومعافى رأى على مأدبة الكريم (114) مختلفاً ألوانها، فتلذذ بها، وذاق حلاوة كل سورة وكل حزب.

– حتى تستشعري لذة كل سورة عن لذة السورة الأخرى:

1- ليكن لكِ تفسير مختصر، لابد من التفسير.

2- احضري قلبك وحركيه بالقرآن.

3- اجعلي نفسك ظرفاً من هذا القرآن لخطاب ربك.

4- قبل أن تبدأي في السورة تأملي في اسمها، واسمائها، ومعانيها، وسبب نزولها حتى تعيشي معها.

كان الصحابة رضوان الله عليهم –خصوصا ابن عباس- يعتنون بأسماء السور، وأوصافها التي تدل على مقصودها، عمر الفاروق كان يسمي سورة التوبة سورة العذاب.

وعن سعيد بن جبير –رضي الله عنه- قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة! بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل (ومنهم)، حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ذكر فيها.

وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر.

سيتشعر مافي هذه السورة من قصص، ويسمونها بأسمائها.

وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل: بني النضير.

سورة الفاتحة وهي أعظم سورة في القرآن، لها أسماء عديدة: السبع المثاني، الشافية، سورة الحمد. لو استشعرنا أنها الشافية أنها الكافية، كل ما أصابنا شيء نرجع إلى الشافية الكافية.

اسأل الله أن يفتح قلوبنا لتدبر كتابه، ويزيل ظلمتها بنور آياته، ويجعل القرآن ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، ونعيش اللذة التي عاشها السلف.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك .

1/5/1437 الاربعاء