الباب الثالث والثلاثون
باب قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )
معنى التوكل :
اظهار العبد عجزه وإعتماده على الله مع بذل اﻷسباب
وهناك تعريفات كثيرة للتوكل لا تعارض بينها لكن بعضها مختصر وبعضها فيه معنى زائد
تعريف بن عثيمين رحمه الله :
هو اﻹعتماد على الله في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقه به وفعل اﻷسباب المأذون فيها ..
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الثلاثة الأصول : هو بذل الأسباب والجد فيها وبذلها علی أنها مجرد سبب دون الاعتماد عليها وتفويض الأمر الی الله في نجاح الأمر
فالأخذ بالأسباب من التوكل لما جاء في الحديث : ( يارسول الله أعقلها أو أتوكل ؟ قال : اعقلها وتوكل )
فهذه التعاريف للتوكل تنص علی أن بذل الأسباب من التوكل .
ومن يعرف معنى التوكل يقوى في حياته في أمور دينه ودنياه
يقول الشيخ بن عثيمين رحمه الله:
من أهم اﻷمور التي يتوكل فيها العبد هي العبادات مثل الخشوع في الصلاة
فيعتمد على في أن تكون صﻻته كل مرة أحسن وأخشع من التي قبلها
وجه الدﻻله من اﻵية:
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )
علّق عز وجل التوكل على وجود اﻹيمان فإن كان التوكل كاملاً كان الإيمان كاملاً
أنواع التوكل :
١- توكل كامل ،( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ،دلت الآية على ذوي الإيمان الكامل
في قوله تعالى : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين )
( حسبك ): أي كافيك أي ليكن الله كافيك والمتوكل عليه
( ومن اتبعك من المؤمنين ) : أي يكفيك والمؤمنين فالله هو حسبك وحسب المؤمنين ومن قال بأن معناها حسبك الله والمؤمنين فهو تفسير خاطيء
ولشيخ اﻹسﻻم ابن تيمه شرح لهذه اﻵيه جميل
وقد قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، لما بعث الله إبراهيم عليه السلام إلى قوم وثنين يعبدون اﻷصنام ليدعوهم إلى التوحيد
فما كان منهم إﻻ أن أبوا فكسر أصنامه فاشعلوا نارا عظيمه ومن شد حرها لم يستطيعوا القاءه فيها فوضعوه في المنجنيق
فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : ألك حاجه
قال :أما منك فﻻ وقال حسبنا الله ونعم الوكيل
فقال الله للنار ( كوني بردا وسلما على إبراهيم*وأرادوا به كيدا فجعلنهم اﻷخسرين)
وقالها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد
وفي أثر عن ابن عباس رضي الله عنه
حين قالوا له (إن الناس قد جمعوا لكم)
لما انصرف أبوسفيان من أحد أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
للقضاء عليهم بزعمه فلقي ركبا فقال لهم إلى أين تذهبون قالوا نذهب إلى المدينه فقال بلغوا محمدا وأصحابه أنا راجعون إليهم فقاضون عليهم ، فجاء الركب إلى المدينه فبلغوهم فقال الرسول ومن معه (حسبنا الله ونعم الوكيل)
فكانت الثمرة : ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله )
بنعمة من الله : النعمة أنهم سلموا
والفضل : أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه ،ولم يمسسهم سوء ورد الله كيد أبي سفيان والقى الرعب في قلبه فرجع إلى مكه
الشاهد قوله :
حسبنا الله ونعم الوكيل
فثمرة ذلك :
1-حولت النار إلى برد وسﻻما
2-جعل الله في ذريته النبوة والكتاب
فعاقبة التوكل عظيمة في الدنيا والآخرة
٢- توكل على غير الله ( اعتماد مطلق )
لاينبغي أن يصرف لغير الله ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركا أكبر
في حديث مرفوع ،عن عمر بن الخطاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا )
أين توكل الطير؟
هو في غدوها
3/اﻹعتماد على سبب صحيح كمن يعتمد علی مديره في رزقه وغير ذلك (وهذا من الشرك اﻷصغر) لان القلب ينبغي أن لا يعتمد الا علی الله ويتعامل مع الأسباب علی أنها مجرد سبب بدون اعتماد
3-أن يوكل أو يفوض شخصا فيما فوض إليه التصرف فيه “وكاله” كما فوض أو وكل الرسول صلى الله عليه وسلم علي في ذبح اﻷضاحي وغير ذلك ( وهذا ﻻشيء فيه ) والبعض لايعتبرها من التوكل بل من الوكالة
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )
أي : أن الله هو كافيه ،فإذا كفاه الله فهذا دليل على محبة الله له وهذا فضل التوكل
فينبغي للإنسان في وقت الشدة أن يقول حسبي الله ونعم الوكيل مع بذل الاسباب التي يستطيع أن يبذلها وسيكفيه الله الذي هو نعم الوكيل
الباب الرابع والثلاثون
باب قوله تعالى : ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) وقوله تعالى : ( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )
مناسبة الباب : لما كان الخوف المذموم يدعو للقنوط من رحمة الله والرجاء قد يصل بالإنسان للأمن من مكر الله كان مناسبا ذكر هذا الباب بعد الخوف و المحبة والرجاء
الأمن من مكر الله : هو الغفلة عن عقوبة الله مع الإقامة على موجبها من المعاصي
القنوط من رحمة الله : استبعاد الفوز برحمة الله حتى في حق العاصي
حكمه : محرم ينافي كمال التوحيد واذا تنافى الخوف بالكلية أصبح ينافي الإيمان واذا كان معه خوف ،أصبح منافيا لكمال الإيمان
وقد قال الشيخ العصيمي في شرحه لكتاب التوحيد : الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله أمران ينافيان كمال التوحيد الواجب مالم يتضمنا زوال أصليهما من الخوف والرجاء فإنهما يكونان حينئذ مخرجان من الملة وهذا لا يتصور من موحد ا.هـ
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئِل عن الكبائر؟ فقال : ( الشرك بالله ،واليأس من رَوحِ الله ،والأمن من مكر الله ) وهذا مثل حديث ابن مسعود رضي الله قال: ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ،والأمن من مكر الله ،والقنوط من رحمة الله ،واليأس من رَوحِ الله ) رواه عبد الرزاق
ولايوجد إشكال في الحديث الأول
فمن غلّب الخوف وصل به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله ،من غلّب الرجاء وقع في الأمن من مكر الله
الفرق بين رَوح الله رحمة الله ؟
روح الله ورحمته : صفتان لله عز وجل متقاربتان في المعنی لكن لا يعني أنه لا فرق بينهما بل كل صفة تختلف عن الاخری
بل بعض الصفات أفضل من البعض الآخر
ففي قوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) يدل علی ان رحمته أوسع الصفات
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم( أعوذ برضاك من سخطك ..الخ ) دليل علی أن الصفات التي استعاذ بها أفضل من الصفات التي استعاذ منها
والرحمة : أعم فهي تكون في جلب النفع ودفع النقم على عكس الرّوح فهو يكون في الشدائد
ومن كلام المفرقين ش/ العصيمي
بين القنوط من رحمة الله وروحه فرق
فإن الرّوح : هو الفرج ففيه معنى آخر غير الرحمة ،إذ يختص وروده بالشدائد والخطوب والمصائب أما الرحمة فهي أعم تشمل جميع الأفراد عند مقارفة الذنوب والخطايا
فإن الرّوح وروده في الشدائد أما الرحمة تشمل جميع الأفراد
قال السعدي في كتابه القول السديد : والقنوط من رحمة الله واليأس من رَوح الله سببان محذوران فأسباب القنوط من رحمة الله
1/الجهل بالله عز وجل أن يسرف العبد على نفسه في المعاصي ويصر على الإقامة على المعاصي ويقطع طمعه من رحمة الله .
2/أو أن يقوى خوف العبد من الله بما جنت يده من الجرائم مع ضعف علمه بالله فلو عرفه لم يخلد إلى الكسل ولعلم أن أدنى عمل يستطيعه يوصله إلى ربه
فإن قال قائل بأن ذنبي عظيم فكيف يغفر الله لي
نقول بأن الله أعظم من هذا الذنب . ومن المنكر الشديد أن يعتقد العبد أن هناك ذنب لا يغفره الله مع التوبة الصادقة
أسباب الأمن من مكر الله :
١- أن يكون العبد عابظا جاهلا بالله معجبا بنفسه فلايزال معجبا حتی يدلي بعمله عل الله ويزول خوف الله من قلبه
٢- التهاون والإعراض وهو درجات فلا يزال يعرض حتى لا يبقى في القلب شيء
السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه، وهما الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يجب، تجده ان لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه،
وأما الأمن من مكر الله، فتجد الإنسان مقيمًا على المعاصي مع توافر النعم عليه، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله، فلا شك أن هذا استدراج.
فينبغي للانسان أن يراجع إيمانه ويتفقد قلبه .
قال ابن القيم رحمه الله : الإنسان إما في زيادة أو نقصان وقال أبو الدرداء : من فقه المرء أن يتعاهد إيمانه أيزيد أم ينقص …
لان نقصان الايمان مع عدم المحاسبة وعدم الخوف مع استمرار نعم الله والاستمرار في الغفلة والنقص هذه من علامات المكر والاستدراج ومن ذلك ترك الاعمال الصالحة مع القدرة عليها ومقارفة المعاصي والاصرار عليها وقسوة القلب وعدم الاحساس بالندم والعزم الصادق في التغيير .
يوم الاثنين ٤ / ٧ / ١٤٣٧هـ